وعند قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}[52].
يقول – أيضاً -: أي: يسهل له أمره، وييسره عليه، ويجعل له فرجاً قريباً ومخرجاً عاجلاً[53].
فتقوى الله – سبحانه وتعالى بلا شك – هي جماع الخير كله، ولا يخفى أثرها في تفريج الكربات، ودفع الشرور والآفات؛ فكلما اتقى العبد ربه وراقبه في السر والعلانية، رفع الله عنه البلاء، وأعطاه من أعظم العطاء، بإذنه جل وعلا.
رابعاً: حسن الاعتقاد، وتصحيح الأعمال القلبية:
فمن حسن الاعتقاد أن يبتعد العبد كل البعد عن الوقوع في الأمور الشركية أو البدعية، التي توصل صاحبها إلى ما لا تحمد عقباه.
وأن يسير في هذا المعتقد على منهج عقيدة السلف الصالح من هذه الأمة.
والمتأمل في نصوص الكتاب والسنة، يجدها تحث على التوحيد، وتؤكد حماية جنابه عن كل ما يشوبه، أو يخل به من الأقوال والأفعال؛ ليحقق العباد بذلك تمام العبودية لله – سبحانه وتعالى – فيحصل لهم بذلك الخير والفلاح، والسعادة في الدارين.
ومن حسن الاعتقاد صدق التوجه إلى الله – تبارك وتعالى – والتوكل عليه في جميع الأمور؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[54].
وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[55].
ومن حسن الاعتقاد – أيضاً – أن يعلم العبد أن النفع والضر بيد الله سبحانه وتعالى، فليس لأحد من المخلوقين أمر المنفعة أو المضرة إلا بإذن الله[56].
خامساً: إخلاص النية، وسلامة المقصد:
فإن للنية أثراً في القراءة – بإذن الله تعالى – خصوصاً إذا استحضرها القارئ، واستصحبها في قراءته.
فهو لا يريد بما يقرأ أمور الدنيا من المال أو السمعة والشهرة، بل يريد بذلك ما عند الله والدار الآخرة، وحصول المنفعة، ورفع الأذى والمضرَّة.
قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" الحديث[57]، والأحاديث في هذا الباب كثيرة ومعلومة.
وقد ذكر الزركشي – يرحمه الله – أنه لا يحصل الانتفاع بخواص القرآن الكريم إلا من أخلص لله قلبه ونيته[58].
ويتضح من كلام الزركشي – المتقدم – أهمية الإخلاص لله في هذا العمل، وارتباطه الوثيق في حصول المنفعة.
وقد توسع كثير من الناس في طلب المال الكثير، وأصبح المقصد حتى دخلت نياتهم بعض الشوائب التي لم تجعل لهذه القراءة بركة.
والواجب في هذا كله تقوى الله – عز وجل – ولا يجعل المال أو الدنيا أكبر همّه، وغاية قصده، فليتق الله في نفسه، ويراعي أحوال المحتاجين.
فمن هذا الباب يتعذر حصول المنفعة، ويدخل الشيطان بوسائله المتشعبة، وتتأثر النية، فالحذر الحذر من اختلال النية والمقصد؛ حتى يحصل بإذن الله تعالى، النفع والفائدة.
سادساً: صدق التوكل على الله، والاعتماد عليه، وتفويض الأمر إليه، مع الصبر والتحمل وتذكر الأجر
الواجب على العبد أن يصدق في التوكل على ربه – سبحانه وتعالى – ويعتمد كل الاعتماد على ربه في جميع الأمور، ويفوض أمره إليه – سبحانه وتعالى – مع الصبر والتحمل وتذكر الأجر العظيم عند الله، وأن الله – عز وجل – هو الذي يرفع البلاء ويدفعه.
وحقيقة التوكل على الله اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً[59].
قال الله تعالى: { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ}[60].
فالملتجأ إلى الله – جل وعلا – فهو العاصم من كل شيء، وأمور العباد لديه سبحانه وتعالى، فهو المعتمد عليه في كل الأمور من الحصول على المصالح والمنافع، ودفع المضار والشرور على وجه العموم.
ومن توكل على الله، واعتمد عليه، وفوض أمره إليه كفاه، وحصل له بإذن الله تعالى الانتفاع في سائر الأمور.
فهو سبحانه الكافي[61] والمعافي والشافي لمن توكل عليه، واعتمد وفوَّض أموره إلى خالقه سبحانه دون سواه.
وليس بيد أحد من المخلوقين إلا ما قَدَّر الله وكتبه، وأراده سبحانه وقضاه في سابق علمه، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[62].
ومع ذلك كله يجب على العبد لزوم الصبر، وقوة العزيمة، والثقة بالله سبحانه وتعالى، وأن لا يستعجل الشفاء والنفعة، ويتذكر الأجر العظيم عند الله الذي أعده سبحانه وتعالى للصابرين، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[63] وكل ذلك يقوي العزيمة والصبر، وقد وعد الله المريض الصابر المحتسب أن يذهب خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة[64]، والمرأة التي كانت تصرع، ويؤذيها ذلك الصرع في نفسها وحالها فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئت صبرت ولك الجنة"[65]. وهذا مما يثبت في النفس الاحتساب والصبر، واللجوء إلى الله بما يحب ويرضى، ويجعل التوكل والاعتماد على الخالق سبحانه، دون الاعتماد على النفس أو على أحدٍ من الخلق.
وقد صدق في التوكل خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما ألقي في النار فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فصدق الله معه، وكفاه ونجاه من كيد الظالمين، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم يوم أحد فكفاه الله المشركين وصدهم عنه[66].
وروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[67] [68].
وروي عن رجل من أهل الكوفة قال: بينا أنا في بستان لي إذ خيّل لي رؤية شخص أسود ففزعت منه، فقلت: حسبي الله ونعم الوكيل، فساخ في الأرض وأنا أنظر إليه، وسمعت صوتاً من ورائي يقرأ هذه الآية: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ }[69] فالتفت فلم أر شيئاً[70].
سابعاً: اعتقاد طالب الخاصية أن النفع والضر بيد الله تعالى:
فالواجب على العبد أن لا يعتقد أن القراءة تنفع بذاتها دون الله، بل يعتقد أنها سبب لا تنفع إلا بإذن الله، وأن يتوجه إلى الله – عز وجل – بإخلاص وصدق مع إظهار الافتقار إلى الله – سبحانه وتعالى – ورحمته ولطفه، والصدق في طلب كشف الضر والبلاء.
قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[71].
يقول الحافظ ابن كثير – يرحمه الله – عند هذه الآية: وقوله: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ } الآية. "فيه بيان لأن الخير والشر والنفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده، لا يشاركه في ذلك أحد، فهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له[72].
ويقول السعدي – يرحمه الله – عند هذه الآية ما نصه: "هذا من أعظم الأدلة على أن الله وحده المستحق للعبادة، فإنه النافع، الضار، المعطي، المانع، الذي إذا مسّ بضر، كفقر ومرض ونحوها {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} لأن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوا بشيء، لم ينفعوا إلا بما كتبه الله، ولو اجتمعوا على أن يضروا أحداً، لم يقدروا على شيء من ضرره إذا لم يرده. ولهذا قال: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} أي: لا يقدر أحد من الخلق أن يرد فضله وإحسانه، كما قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[73].{يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: يختص برحمته من شاء من خلقه، والله ذو الفضل العظيم {وَهُوَ الْغَفُورُ}لجميع الزلات، الذي يوفق عبده لأسباب مغفرته، ثم إذا فعلها العبد، غفر الله ذنوبه، كبارها وصغارها {الرَّحِيمُ} الذي وسعت رحمته كل شيء، ووصل جوده إلى جميع الموجودات، بحيث لا تستغني عن إحسانه طرفة عين، فإذا عرف العبد بالدليل القاطع أن الله هو المنفرد بالنعم، وكشف النقم، وإعطاء الحسنات، وكشف السيئات والكربات، وأن أحداً من الخلق، ليس بيده من هذا شيء، إلا ما أجراه الله على يده، جزم بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل"[74].
فالواجب على العبد أن يتعلق قلبه بالله – عز وجل – دون غيره من المخلوقين، فالله – سبحانه وتعالى – هو الذي بيده كل شيء، وهو على كل شيء قدير. فالقراءة لا تؤثر بذاتها بل بإذن الله – عز وجل – وإنما هي سبب من الأسباب، والاعتماد الكامل على مسببها، وهو الله – سبحانه وتعالى – فيكون تعلق القلب الكامل بالله – عز وجل – دون تعلقه بالناس أو غيرهم.
ثامناً: الإقبال على الله – جلا وعلا – مع التوبة النصوح، والتخلص من المعاصي والآثام والمظالم
إن الإقبال على الله – سبحانه وتعالى – والتوبة إليه من كل ذنب وخطيئة، مستوفية شروطها الأربعة[75]: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى وسلف من المعاصي والآثام، والعزم الصادق على عدم الرجوع إليها، ورد الحقوق التي أخذت بالظلم والعدوان إلى أهلها ومستحقيها؛ كل ذلك سبب رئيس في رفع البلاء، وحصول النفع للعبد في دنياه وآخرته، والعكس بالعكس، نسأل الله العافية والسلامة.
قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[76] فإن كثيراً من الشرور وعدم القبول الذي يحصل للعبد، إنما يكون بسبب الذنوب والمعاصي، وظلم العبد نفسه وغيره، والتوبة إلى الله من ذلك كله ترفع البلاء – بإذن الله تعالى -.
ومن الإقبال على الله، حفظ الله في كل شيء؛ باتباع الأوامر واجتناب النواهي، فمن حفظ الله، حفظه الله من كل سوء ومكروه.
وفي الحديث عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"[77].
فقوله عليه الصلاة والسلام: "احفظ الله" يعني: احفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره، ونواهيه، وحفظ ذلك: هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده، فلا يتجاوز ما أمر به، وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين حدود الله، الذين مدحهم الله في كتابه، وقال عز وجل:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ}[78].
وفسر الحفيظ هنا بالحافظ لأوامر الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها.
ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله الصلاة، والطهارة، وحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى.
وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله.
النوع الثاني من الحفظ، وهو أشرف النوعين: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلَّة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على الإيمان[79].
فمن حفظ الله، حفظه الله، ومن ضيَّع الله، ضيعه الله؛ فالجزاء من جنس العمل.
ومن الإقبال على الله – سبحانه وتعالى – الاستقامة على دين الله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[80]
ذكر أهل العلم من معاني الاستقامة في هذه الآية: أن لا يشرك العبد بالله شيئاً، وأن يستقيم على الأمر والنهي، وأن يخلص العمل لله، وأن يستقيم على أداء الفرائض[81].
ومن الإقبال على الله، الإقبال بالعمل الصالح، من بذل للصدقة والمعروف، والإصلاح بين الناس، والقيام بحاجاتهم، والمحافظة على الصلوات المكتوبات؛ ليكون في ذمة الله في الصباح والمساء، والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية في هذه الأبواب الصالحة كثيرة ومعلومة.
فبمثل هذه الأعمال الصالحة، يوفق العبد لكل خير، وينتفع بكل عمل، ويدفع الله بها عنه كل شر ومكروه.
ويشهد لهذا كله، الواقع والحال فيمن يحرص على تلك الأعمال الصالحة.
تاسعاً: العمل بالقرآن الكريم، وتدبر ألفاظه:
يقول ابن القيم – يرحمه الله -:"وأما التأمل في القرآن؛ فهو تحديق نظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله.
وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا تفهّم ولا تدبر، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[82] وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[83]
وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}[84]
وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[85] 
وقال الحسن رضي الله عنه: نزل القرآن ليُتدبَّر ويعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً.
فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل له وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما ومآل أهلهما... فلا تزال معانيه تُنهِضُ العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التَّضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل، وتهديه في ظُلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، ... وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل، وتسهل عليه الأمور الصعاب والعقبات الشاقة غاية التسهيل....[86]
ويقول الزركشي في البرهان[87]: هذا النوع والذي قبله[88] لن ينتفع به إلا من أخلص لله قلبه ونيَّته، وتدبر الكتاب في عقله وسمعه، وعمر به قلبه، وأعمل به جوارحه، وجعله سميره في ليله ونهاره، وتمسك به وتدبره.
هنالك تأتيه الحقائق من كل جانب؛ وإن لم يكن بهذه الصفة كان فعله مكذباً لقوله...+.
ويقول – أيضاً – ابن القيم – يرحمه الله – في مفتاح دار السعادة: =فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأ بتفكر حتى مرَّ بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرَّة ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول ذوق حلاوة القرآن، هذه عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح... فقراءة القرآن هي أصل صلاح القلب... [89].
عاشراً: المحافظة على تلاوة القرآن الكريم، وملازمة الذكر الصالح:
فمن المعلوم أن لذكر الله – جل وعلا – والمحافظة على الذكر الصالح من الأدعية والأذكار الصحيحة، الأثر الكبير في جلب المنافع، ودفع المضار عن العبد – بإذن الله تعالى.
ولا تخفى فائدة الذكر على وجه العموم[90]، وأفضل الذكر – بلا شك – القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وفي المحافظة على قراءة القرآن الكريم، وحفظه، والذكر الصحيح الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحقق الانتفاع للعبد المحافظ عليها في ليله ونهاره، وسائر أحواله.
فمن القرآن الكريم على سبيل المثال؛ لا على سبيل الحصر، فالقرآن كله شفاء ورحمة للمؤمنين، سورة الفاتحة، وسورة البقرة، وفيها آية الكرسي، وآخر آيتين من سورة البقرة، والمعوذتين، فكل هذه تطرد الشياطين، وتحفظ بحفظ الله – سبحانه وتعالى – من كل سوء ومكروه، والأحاديث الصحيحة الدالة على هذا الأمر واضحة ومعلومة.
ومن الذكر الصالح، الاستعاذة بالله من كل شيء، والتسمية في كل شيء، والدعاء، وذكر اسم الله على الدوام في جميع الأقوال والأفعال والأحوال، إلا ما استثني، ويلتزم في ذلك على وجه الخصوص بالأدعية الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، فهي الأدعية التي تحتوي جوامع الكلم، وتشمل خير الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[91] وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[92].
وقال تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}[93].
فمن حافظ على ذكر الله ولازمه حريٌّ به أن ينتفع بهذا القرآن الكريم ويحفظ بحفظ الله، من كل سوء ومكروه، ويرتفع عنه كل شر وبلاء، فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين[94].
الحادي عشر: ارتفاع الموانع الحاجبة عن الانتفاع بالخاصية:
إن من أسباب تحقق الانتفاع بالقرآن الكريم، ارتفاع الموانع الحاجبة عن الانتفاع بخواصه، ومن ذلك الوقوع في الذنوب والمعاصي، واتباع الهوى، وطاعة النفس في الوقوع فيما حرم الله، فكل ذلك يمنع من الانتفاع بخواص القرآن الكريم.
وبالحرص على أسباب النفع، والسعي في تحقيقها تحصل المنفعة، وتتحقق الغاية في حصول الانتفاع بخواص القرآن الكريم على وجه العموم.
قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}[95].
فالمحافظة على الصلاة من أسباب الحصول على حفظ الله للعبد، ومما يقوي صلة العبد بربه – سبحانه وتعالى – وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء"[96].
وفي الحديث – أيضاً – عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدي، الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه".
وفي رواية أخرى: "من سرَّه أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدي وإنهن من سنن الهدى"[97].
فلا شك أن من ترك الصلاة، قد ارتكب أعظم الموانع في حق نفسه، وقطع الصلة التي بينه وبين ربه، وإذا لم يحفظك الله فمن الحافظ لك بعد الله، وإذا لم تكن في ذمة الله، فمن تكون في ذمته!؟ والله المستعان.
ومن الموانع التي تحرم العبد، وتبعده عن الحصول على منافع هذا القرآن الكريم وخواصه وجود التصاوير والتماثيل، وأصوات الغناء والمزامير، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه تماثيل أو تصاوير"[98].
وكذا الاستماع إلى المعازف والموسيقى، والوقوع في المعاصي، فكل هذه الأمور تبعد الملائكة والخير، وتقرِّب الشياطين والشر، نسأل الله العافية والسلامة. فالواجب على العبد أن يرفع عن نفسه هذه الموانع، التي تحول بينه وبين ما يحصل عليه من الانتفاع والخير بكلام رب العالمين( ).
تســــــاؤل:
هل لا بد من الالتزام والعمل بهذه الضوابط والآداب الشرعية؛ للانتفاع بخواص القرآن الكريم؟
أو بمعنى آخر:
هل عدم توفر أحد هذه الضوابط والآداب الشرعية يكون السبب في عدم الانتفاع بخواص القرآن الكريم؟
الجــــــواب:
لا شك أن هذه الضوابط والآداب الشرعية المذكورة؛ سبب رئيس في الانتفاع بخواص القرآن الكريم، فكلما توفرت هذه الضوابط والآداب الشرعية كان الانتفاع بخواص القرآن الكريم أكثر وأعظم وأقوى، وكلما تأخر بعضها، أو ترك كان النفع والتأثير أقل وأضعف.
وعليه فالواجب على العبد أن يحرص على توافر هذه الضوابط والآداب الشرعية التي تحقق الانتفاع بخواص القرآن الكريم – بإذن الله تعالى – ليحصل له بذلك الخير الكثير، والنفع العظيم، والله تعالى أعلم.
يقول فضيلة الشيخ عبدالله الجبرين – يحفظه الله – حول هذا الموضوع، في صفات وآداب الراقي بالرقية الشرعية: لا تفيد القراءة على المريض إلا بشروط:
الشرط الأول: أهلية الراقي: بأن يكون من أهل الخير والصلاح والاستقامة والمحافظة على الصلوات والعبادات والأذكار والقراءة والأعمال الصالحة وكثرة الحسنات، والبعد عن المعاصي والبدع والمحدثات والمنكرات وكبائر الذنوب وصغائرها، والحرص على الأكل الحلال، والحذر من المال الحرام أو المشتبه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، فأنى يُستجاب له"[99].
فطيب المطعم من أسباب قبول الدعاء، ومن ذلك عدم فرض الأجرة على المرضى، والتنزه عن أخذ ما زاد على نفقته فذلك أقرب إلى الانتفاع برقيته.
الشرط الثاني: معرفة الرقى الجائزة من الآيات القرآنية: كالفاتحة، والمعوذتين، وسورتي الإخلاص، وآخر سورة البقرة، وأول سورة آل عمران وآخرها، وآية الكرسي،... ومن الأدعية القرآنية المذكورة في الكلم الطيب ونحوه...
الشرط الثالث: أن يكون المريض من أهل الإيمان والصلاح والخير والتقوى والاستقامة على الدين، والبعد عن المحرمات والمعاصي والمظالم، قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً}[100].
وقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً}[101] فلا تؤثر غالباً في أهل المعاصي وترك الطاعات وأهل التكبر والخيلاء والإسبال وحلق اللحى والتخلف عن الصلاة وتأخيرها والتهاون بالعبادات ونحو ذلك.
الشرط الرابع: أن يجزم المريض بأن القرآن شفاء ورحمة وعلاج نافع، فلا يفيد إذا كان متردداً يقول: أفعل الرقية كتجربة إن نفعت وإلا لم تضر؛ بل يجزم بأنها نافعة حقاً، وأنها هي الشفاء الصحيح كما أخبر الله تعالى. فمتى تمت هذه الشروط نفعت بإذن الله تعالى، والله أعلم[102].